القديس أوغسطين… حين تصبح الثقافة جسرًا يعبره الجزائريون والإيطاليون نحو صداقة أعمق
- 14 nov
- Tempo di lettura: 3 min

بقلم: مروة خيّال
في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الجيوسياسية وتشتد فيه الانقسامات، تعود الثقافة لتقدّم نفسها باعتبارها الطريق الأكثر ثباتًا نحو بناء الجسور بين الشعوب. هذا ما أكده المؤتمر الدولي الذي احتضنته روما تحت عنوان «القديس أوغسطين يوحّد الجزائر وإيطاليا… من أجل السلام والتلاقي»، برعاية السفارة الجزائرية وتنظيم الجمعية الإيطالية–العربية للصداقة.لم يكن الحدث مجرد لقاء أكاديمي أو ديني، بل لحظة فريدة أعادت إحياء أحد أعلام الفكر الإنساني بوصفه رمزًا للتقارب بين ضفتي المتوسط.
أوغسطين… الجزائري الذي تحدث إلى العالم
يُعد القديس أوغسطين، المولود عام 354م في مدينة طاغست (سوق أهراس) شرق الجزائر، أحد أبرز مفكري المسيحية عبر التاريخ، وأحد أهم فلاسفة الإنسانية. حمل فكره مزيجًا من الروحانية العميقة والعقل الفلسفي المتوقد، فترك بصمته على اللاهوت المسيحي والفلسفة السياسية وأخلاقيات الإنسان.اشتهر أوغسطين بقدرته على تحويل التجربة الشخصية إلى رسالة عالمية؛ فـ«اعترافاته» ليست مجرد سيرة ذاتية، بل وثيقة فلسفية تبحث في معنى الإنسان، وفي صراعه الداخلي بين الرغبة والضمير، بين العتمة والنور.ولأنه عاش بين الجزائر وروما، بين أفريقيا وأوروبا، فقد بات تجسيدًا حيًا لوحدة المتوسط، وكأن حياته تدعو — بعد قرون — إلى إعادة اكتشاف الروابط التي تُهملها السياسة أحيانًا لكنها تبقى حاضرة في الذاكرة الثقافية.

ثقافة تجمع لا تفرّق
اختيار القديس أوغسطين عنوانًا للمؤتمر لم يكن صدفة؛ فهو رمز لما يمكن أن تصنعه الثقافة حين تتحول إلى مساحة لقاء وليست مساحة اختلاف.فالجزائر التي أنجبت أوغسطين، وإيطاليا التي احتضنت فكره ونشرته إلى العالم، ليستا غريبتين عن بعضهما البعض. فمنذ العصور الرومانية، تداخلت جغرافيا البلدين وتشابكت مصائرهما، لكن الثقافة — كما أثبت المؤتمر — قادرة اليوم على إعادة تفعيل هذه الروابط في سياق جديد قوامه الصداقة والتفاهم.

رسائل من قلب روما
في افتتاح المؤتمر، أكد السفير الجزائري محمد خليفي أن أوغسطين «يجدد معنى السلام في المتوسط»، مشيرًا إلى أن شجرة الزيتون التي كان يتأمل تحتها في طاغست أصبحت رمزًا للسلام والانتماء المشترك.أما الأب عبدو رعد، فذكّر بأن البحر المتوسط «لم يكن يومًا حاجزًا»، بل «نافذة حضارية» تربط الجزائر بإيطاليا كما ربطت أوغسطين بعالميه الإفريقي والأوروبي.السفيرة إيناس مكاوي قدّمت بدورها رؤية ثقافية لافتة، حين وصفت الجزائر بأنها «جسر حضاري يربط إفريقيا بأوروبا»، مستعيدة رؤية تاريخية ترى في البحر المتوسط فضاءً تتقاسم فيه الشعوب الذاكرة والتجارب والإنسانية.

تكريم يعكس دورًا ثقافيًا لافتًا
وفي ختام المؤتمر، تم تكريم السفيرة إيناس مكاوي تقديرًا لعملها المتواصل في الدفاع عن القضايا العربية ونشر الثقافة العربية في أوروبا، خصوصًا في المحافل التي تسلط الضوء على التلاقي الحضاري بين الجنوب والشمال. كان هذا التكريم تجسيدًا آخر لفكرة أن الثقافة ليست ترفًا، بل أداة دبلوماسية فاعلة.

لماذا نحتاج أوغسطين اليوم؟
في عالمٍ يتجه نحو الانغلاق، يشكل أوغسطين مثالًا لإنسان عاش الهويتين: الإفريقية والأوروبية. هذا النموذج يُذكّر بأن التعدد ليس تهديدًا بل ثروة، وأن الانتماء المزدوج قادر على إنتاج فكر يرسّخ الحوار بدل الصراع.إن استعادة رمزية أوغسطين ليست عودة إلى الماضي بقدر ما هي محاولة لقراءة الحاضر من منظور أكثر إنسانية.فالثقافة — كما أثبت هذا المؤتمر — تستطيع أن تعيد صياغة العلاقات الدولية على أساس الاحترام المتبادل والتقارب الروحي، وليس فقط المصالح السياسية أو الاقتصادية.

نحو صداقة متوسطية متجددة
نقاشات المؤتمر أعادت التأكيد على أن الجزائر وإيطاليا تمتلكان رصيدًا ثقافيًا مشتركًا يمكن أن يتحول إلى رافعة قوية للعلاقات الثنائية.فاللغة، والذاكرة، والفكر، والموروث الروحي، تشكل جميعها بنية صلبة يمكن البناء عليها لتعزيز:
• التعاون الثقافي
• الحوار الديني
• المبادرات الجامعية والبحثية
• السياحة الروحية
• الدبلوماسية الشعبية بين المجتمعين الجزائري والإيطالي
بهذه المعاني، يصبح أوغسطين ليس مجرد شخصية تاريخية، بل عنوانًا لصداقة جديدة تتشكل بين الشعبين — صداقة تعبر عبر الثقافة حين تعجز السياسة.
ختامًا… رسالة المتوسط
إن استعادة فكر القديس أوغسطين اليوم هي استعادة لقيم السلام، والتسامح، والبحث عن الحقيقة. وهي دعوة لإعادة بناء جسور المتوسط، ليس بالحجارة والطرقات، بل بالكلمة والفكرة والذاكرة.وبين الجزائر وروما، يبدو هذا الجسر أكثر متانة من أي وقت مضى.







Commenti